فصل: تفسير الآية رقم (231):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (231):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لَّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [231].
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء}، أي: طلاقاً رجعياً: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}، أي: قاربن انقضاء العدة: {فَأَمْسِكُوهُنَّ} أي: بالمراجعة إن أردتم: {بِمَعْرُوفٍ}، من غير ضرار: {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}، أي: بأن تتركوهن حتى تنقضي العدة فيملكن أنفسهن: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ}، أي: بالرجعة: {ضِرَاراً}، أي: مضارة بإزالة الألفة وإيقاع الوحشة وموجبات النفرة: {لَّتَعْتَدُواْ}، اللام للعاقبة، أي: لتكون عاقبة أمركم الاعتداء، أو للتعليل متعلقة بالضرار فيكون علة للعلة، أي: لتظلموهن بالإلجاء إلى الافتداء: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}، أي: بتعريضها لسخط الله عليه ونفرة الناس منه.
{وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ}، أي: أوامره ونواهيه: {هُزُواً} أي: مهزواً بها بأن تعرضوا عنها وتتهاونوا في المحافظة عليها: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ}، أي: في إرساله الرسول بالهدى والبينات إليكم: {وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ}، أي: السنة: {يَعِظُكُم بِهِ} أي: بما أنزل. أي: يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على المخالفة: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تأكيد وتهديد.

.تفسير الآية رقم (232):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [232].
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}، أي: انقضت عدتهن. وقد دل سياق الكلامين على اختلاف البلوغين، إذ الأول دل على المشارفة للأمر بالإمساك، وهذا على الحقيقة للنهي عن العضل: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} أي: لا تمنعوهن: {أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}، الذين طلقوهن، والآن يرغبن فيهم: {إِذَا تَرَاضَوْاْ}، أي: النساء والأزواج: {بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ}، أي: بما يحسن في الدين من الشرائط: {ذَلِكَ}، أي: النهي عن العضل: {يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ}، أي: الاتعاظ بترك العضل والضرار: {أَزْكَى لَكُمْ}، أي: أصلح لكم: {وَأَطْهَرُ}، لقلوبكم وقلوبهن من الريبة والعدواة: {وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، أي: يعلم ما فيه صلاح أموركم فيما يأمر وينهى ومنه ما بيّنه هنا وأنتم لا تعلمونه، فدعوا رأيكم وامتثلوا أمره تعالى ونهيه في كل ما تأتون وما تذرون. وقد روي: أن هذه الآية نزلت في مَعْقِل بن يسار المزني وأخته.
أخرج البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم عن مَعْقِل بن يسار: أنه زوج أخته رجلاً من المسلمين، فكانت عنده، ثم طلقها تطليقة ولم يراجعها، حتى انقضت العدة فهويها وهويته. فخطبها مع الخطاب. فقال له: يا لكع! أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها، والله لا ترجع إليك أبداً. فعلم رسول الله حاجته إليها وحاجتها إليه، فأنزل الله الآية، فلما سمعها مَعْقِل قال: سمعٌ لربي وطاعة! ثم دعاه وقال: أزوجك وأكرمك. زاد ابن مردويه: وكفرت عن يميني.

.تفسير الآية رقم (233):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [233].
{وَالْوَالِدَاتُ}، أي: من المطلقات: {يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}، أي: سنتين كاملتين: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}، أي: هذا الحكم لمن أراد أن يتم رضاع الولد، فأفهم أنه يجوز الفطام للمصلحة قبل ذلك، وأنه لا رضاع بعد التمام.
قال الحرالي: وهو- أي: الذي يكتفي به دون التمام- هو ما جمعه قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15]، فإذا كان الحمل تسعاً كان الرضاع أحداً وعشرين شهراً. وإذا كان حولين كان المجموع ثلاثاً وثلاثين شهراً، فيكون ثلاثة آحاد وثلاثة عقود، فيكون ذلك تمام الحمل والرضاع.
{وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ}- أي: الأب- وعبّر عنه بهذه العبارة إشارة إلى جهة وجوب المؤن عليه، لأن الوالدات إنما ولدن للآباء، ولذلك ينسب الولد للأب دون الأم. قال بعضهم:
وإنما أمهات الناس أوعيةٌ ** مستودَعَاتٌ وللآباء أبناء

{رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ}، أي: على والد الطفل نفقة أمه المطلقة مدة الإرضاع، أي: طعامهن ولباسهن: {بِالْمَعْرُوفِ}، وهو قدر الميسرة كما فسره قوله تعالى: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا}، يعني طاقتها. والمعنى: أن أبا الولد لا يكلف في الإنفاق عليه وعلى أمه إلا قدر ما تتسع به مقدرته، ولا يبلغ إسراف القدرة: {لا تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}، أي: يأخذ ولدها منها بعد رضاها بإرضاعه ورغبتها في إمساكه وشدة محبتها له: {وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ}، يعني الأب: {بِوَلَدِهِ}، بطرح الولد عليه. يعني: لا تلقي المرأة الولد إلى أبيه وقد ألفها، تضاره بذلك. وهذا التأويل على تقدير كون تضار مبنيًّا للمفعول، وأما على بنائه للفاعل، فالمفعول محذوف والتقدير. لا تضارِر- بكسر الراء الأولى- والدة زوجها بسبب ولدها، وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد، وأن تقول بعد أن ألفها الصبي: اطلب له ظئراً، وما أشبه ذلك، ولا يضارر مولود له امرأته بسبب ولده، بأن يمنعها شيئاً مما وجب عليه من رزقها وكسوتها، أو يأخذه منها وهي تريد إرضاعه. والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد: وهو أن يغيظ أحدهما صاحبه: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}، أي: على وارث الأب أو وارث الصبي مثل ما على الأب من النفقة وترك الضرار إذا لم يكن الأب: {فَإِنْ أَرَادَا}، يعني الزوج والمرأة: {فِصَالاً}، أي: فصال الصبي عن اللبن قبل الحولين- يعني: فطاماً: {عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا}، بتراضي الأب والأم: {وَتَشَاوُرٍ} بمشاورتهما: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}، أي: على الأب والأم إن لم يرضعا ولدهما سنتين: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ}. يعني غير الأم عند إبائها أو عجزها أو إرادتها أن تتزوج: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم}- يعني إلى المراضع-: {مَّا آتَيْتُم} أي: ما أردتم إيتاءه إليهن من الأجر: {بِالْمَعْرُوفِ} متعلق بسلمتم أي: سلمتم الأجرة إلى المراضع بطيب نفس وسرور. والمقصود: ندبهم أن يكونوا عند تسليم الأجرة مستبشري الوجوه، ناطقين بالقول الجميل، مطيبين لأنفس المراضع، حتى يؤمن من تفريطهن بمصالح الرضيع: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، فيه من الوعيد والتحذير عن مخالفة أحكامه ما لا يخفى.

.تفسير الآية رقم (234):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [234].
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ}، أي: يموتون من رجالكم: {وَيَذَرُونَ}، أي: يتركون: {أَزْوَاجاً} بعد الموت: {يَتَرَبَّصْنَ}، أي: ينتظرن: {بِأَنفُسِهِنَّ} في العدة: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} يعني عشرة أيام: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}، أي: انقضت عدتهن: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}، أي: على الأولياء في تركهن: {فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ} من التعرض للخطاب والتزين: {بِالْمَعْرُوفِ}، أي: بوجه لا ينكره الشرع. وفيه إشارة إلى أنهن لو فعلن ما ينكره الشرع، فعليهم أن يكفوهن عن ذلك. وإلا فعليهم الجناح: {وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
اعلم أن في هذه الآية مسائل:
الأولى: خص من عموم الآية الحامل المتوفى عنها زوجها، فإن عدتها بوضع الحمل لقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ولما في الصحيحين عن سبيعة الأسلمية: أنها كانت تحت سعد بن خولة- وهو من بني عامر بن لؤي، وكان ممن شهد بدراً- فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل. فلم تلبث أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها تجمّلت للخطّاب. فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك- رجل من بني عبد الدار- فقال: ما لي أراك تجمّلت للخطّاب، لعلك ترجين النكاح؟ وإنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشرا. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حتى أمسيت وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك؟ فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي. وأمرني بالتزويج إن بدا لي. وفيه قال ابن شهاب: ولا أرى بأساً بأن تتزوج حين وضعت، وإن كانت دمها، غير أنه لا يقربها حتى تطهر.
الثانية: المراد من تربصها بنفسها: الامتناع عن النكاح، والامتناع عن التزين، والامتناع عن الخروج من المنزل الذي توفي زوجها فيه. فالأول مجمع عليه.
والثاني: روي فيه عن أم حبيبة وزينب بنت جحش وعائشة- أمهات المؤمنين- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة وأشهر وعشراً». متفق عليه. وعن أم سلمة أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ قال: لا. كل ذلك يقول: لا. مرتين أو ثلاثاً- ثم قال: «إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة». متفق عليه.
وعن نافع: أن صفية بنت عبد الله اشتكت عينها- وهي حادّ على زوجها ابن عمر، فلم تكتحل حتى كادت عيناها ترمصان، أخرجه مالك في الموطأ.
وعن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تلبس المتوفى عنها زوجها، المعصفرة من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل ولا تطيب» أخرجه أبو داود والممشقة: المصبوغة بالمشق وهي: المغرة.
وقد استنبط بعضهم وجوب الإحداد من قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ}، أي: من زينة وتطيب- كما قدمنا- فيفيد تحريم ذلك في العدة وهو الإحداد.
وأما الامتناع عن الخروج من المنزل الذي توفي فيه زوجها: فروى فيه أحمد وأهل السنن حديث فريعة بنت مالك قالت: خرج زوجي في طلب أعلاج له فأدركهم في طريق القدوم فقتلوه، فأتى نعيه وأنا في دار شاسعة عن دار أهلي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقلت: إن نعي زوجي أتاني في دار شاسعة عن أهلي، ولم يدع نفقة ولا مالاً ورثته وليس المسكن له، فلو تحولت إلى أهلي وإخوتي لكان أرفق بي في بعض شأني؟ قال: تحولي، فلما خرجتُ إلى المسجد أو إلى الحجرة دعاني- أو أمر بي فدعيت- فقال: امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله. قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً. وفي بعض ألفاظه: أنه أرسل إليها عثمان بعد ذلك فأخبرته، فأخذ به. وقد أُعِلّ هذا الحديث بما لا يقدح في الاحتجاج به.
الثالثة: أكثر الفقهاء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداء بالحول وإن كانت متقدمة في التلاوة، فإن ترتيب المصحف ليس على ترتيب النزول، بل هو توفيقي. وذهب مجاهد إلى أنهما محكمتان. كما سيأتي بيانه.
الرابعة: أبدى المهايمي الحكمة في تحديد عدة المتوفى عنها بهذا القدر، فقال: لئلا يتعارض في قلبها حب المتوفى وحب الجديد، فأخذت مدة صبرها- وهو أربعة أشهر- وزيد عليه العشر، إذ بذلك ينقطع صبرها فتميل إلى الجديد ميلاً كلياً، فينقطع عن قلبها حب المتوفى، على أنه يظهر في حق المدخول بها حركة الحمل إذ تكون بعد أربعة أشهر، لكنها تبتدئ ضعيفة وتتقوى بمضي عشر أخر. ثم قال: ولم يكتف بالأقراء الدالة على عدمه ههنا، بخلاف الفراق حال الحياة، لأن الفراق الاختياري شاهد عدمه مع شهادة الأقراء، فثمة شاهدان، وههنا واحد، وعدم الحركة بعد هذه المدة يقوي شهادة الأول فيكون كالشاهد مع اليمين.

.تفسير الآية رقم (235):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [235].
{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء}، أي: لا حرج عليكم أيها الخاطبون، في التعريض بخطبتكم النساء المتوفى عنهن أزواجهن قبل انقضاء العدة لتتزوجوهن بعد انقضائها. والتعريض: إفهام المقصود بمالم يوضع له حقيقة ولا مجازاً. كأن يقال لها: إنك جميلة أو صالحة، أو ربَّ راغب فيك، أو من يجد مثلك. والخطبة- بالكسر-: طلب المرأة {أَوْ}- فيما: {أَكْنَنتُمْ}، أي: أضمرتم من نكاحهن: {فِي أَنفُسِكُمْ} أي: قلوبكم، وإن كان حقه التحريم فضلاً عن التعريض باللسان، لكن أباحه الله لكم، إذ: {عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ}، أي: لا تصبرون عن النطق برغبتكم فيهن، فرخص لكم في التعريض دون التصريح، وفيه طرف من التوبيخ على قلة التثبت، كقوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187] {وَلَكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} هذا الاستدراك من قوله: {فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ}. و{سِرّاً} مفعول به، لأنه بمعنى النكاح. أي: لا تواعدوهن نكاحاً. أو هو بمعنى ضد الجهر والإعلان، فيكون مصدراً في موضع الحال تقديره: مستخفين بذلك والمفعول محذوف تقديره: لا تواعدوهن النكاح سراً. أو صفة لمصدر محذوف، أي: مواعدة سراً، أو التقدير في سر فيكون ظرفاً. وإنما نهى عن ذلك؛ لأن المواعدة بذكر الجماع والرفث بين الأجنبي والأجنبية غير جائز إجماعاً، كالمواعدة بينهما على وجه السر إذ لا تنفك ظاهراً عن أن تكون مواعدة بشيء من المنكرات.
قال ابن عطية: أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو رفث من ذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز. وقال أيضاً: أجمعت الأمة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة في نفسها، وللأب في ابنته البكر، وللسيد في أمته.
وقوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً}، أي: لا يستحيي منه عند أحدٍ من الناس. فآل الأمر إلى أن المعنى: لا تواعدوهن إلا ما لا يستحيى من ذكره فيسر، وهو التعريض، فنصت هذه الآية على تحريم التصريح. بعد إفهام الآية الأولى لذلك، اهتماماً به لما للنفس من الداعية إليه- أفاده البقاعي.
وقال الرازي: لما أذن تعالى في أول الآية بالتعريض ثم نهى عن المسارة معها دفعاً للريبة والغيبة، استثنى عنه أن يساررها بالقول المعروف. وذلك أن يعدها في السر بالإحسان إليها، والاهتمام بشأنها، والتكفل بمصالحها، حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكداً لذلك التعريض. والله أعلم.
تنبيه:
ما قدمناه من أن قوله تعالى: {وَلَكِن} إلخ، استدراك من قوله: {فِيمَا عَرَّضْتُم} قاله أبو البقاء.
وجعل الزمخشري المستدرك محذوفاً دل عليه: {سَتَذْكُرُونَهُنَّ}، أي: فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن سراً.
قال الناصر: وقويت دلالة هذا المذكور على ما حذف؛ لأن المعتاد في مثل هذه الصيغة ورود الإباحة عقيبها. ونظير هذا النظم قوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] الآية، ولهذا الحذف سر- والله أعلم- وهو أنه اجتنب؛ لأن الإباحة لم تنسحب على الذكر مطلقاً. بل اختصت بوجه واحد من وجوهه. وذلك الوجه المباح عسر التميز عما لم يبح. فذكرت مستثناة بقوله: {إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} تنبيهاً على أن المحل ضيق والأمر فيه عسر، والأصل فيه الحظر. ولا كذلك الوطء في زمن ليل الصوم. فإنه أبيح مطلقاً غير مقيد، فلذلك صدر الكلام بالإباحة والتوسعة. وجاء النهي عن مباشرة المعتكفة في المسجد تلواً للإباحة وتبعاً في الذكر؛ لأنها حالة فاذّة. والمنع فيها لم يكن لأجل الصوم ولكن الأمر يتعلق به من حيث المصاحب، وهو الاعتكاف. فتفطن لهذا السر فإنه من غرائب النكت.
{وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}، العقدة بالضم من النكاح وكل شيء من البيع ونحوه، وجوبه. قال الفارسي: هو من الشد والربط، وقال الرازي: أصل العقد الشد. وسميت العهود والأنكحة عقوداً؛ لأنها تعقد كما يعقد الحبل. وذكر العزم مبالغة في النهي عن عقد النكاح؛ لأن العزم على الفعل يتقدمه. فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى. ومعناه: ولا تعزموا وجوب النكاح لأن القصد إليه حال العدة يفيد مزيد تحريك من الجانبين، بحيث لا يطاق معه الصبر إلى انقضاء العدة.
وقوله: {حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}، أي: العدة المكتوبة المفروضة آخرها {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ} من الميل إليهن قبل الأجل: {فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ} يغفر ذلك الميل إذ لم يتعد العزم عقدة النكاح: {حَلِيمٌ} لا يعاجل بالعقوبة، فلا تستدلوا بتأخيرها على أن ما نهيتم عنه من العزم ليس مما يستتبع المؤاخذة....